في حين ظن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن قمة ألاسكا التي جمعت بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين الشهر قبل الماضي ستقوده إلى طريق سريع لإنهاء الحرب في أوكرانيا، أخرجه موقف بوتين خلال القمة وتصريحاته اللاحقة من هذه الحالة، ليصبح نقطة تحول في التحركات الأميركية التالية.
وعاد الرئيسان للحديث مرة أخرى، يوم الخميس 17 أكتوبر/ تشرين الأول، واتفقا من جديد على عقد قمة ثانية في مدينة بودابست المجرية والتي توقع ترامب أن تكون خلال أسبوعين.
وكانت قمة أنكوريغ المتوترة في ألاسكا، التي كاد ترامب أن ينسحب منها، قد أعادت تشكيل طبيعة علاقة الرئيسين.
اقرأ أيضاً: ترامب يكشف عن تفاصيل مكالمته مع بوتين والاتفاق على لقاء آخر في بودابست
قمة ألاسكا والخطاب التاريخي
بحسب ما نقله تقرير لصحيفة فايننشال تايمز عن أشخاص مطلعين، استقبل ترامب الرئيس الروسي في ألاسكا بمصافحة وابتسامة عريضة، وبدا أن الزخم في صالح الأخير، لكن بعد أن دارت مباحثات خلف الأبواب المغلقة، سرعان ما خفت حدة الود.
ومع وجود عدد قليل من المستشارين، رفض الرئيس الروسي عرض الولايات المتحدة بتخفيف العقوبات مقابل وقف إطلاق النار، مُشيراً إلى أن الحرب لن تنتهي إلا باستسلام أوكرانيا، والتنازل عن المزيد من الأراضي في دونباس، بحسب التقرير.
بعد ذلك ألقى بوتين خطاباً تاريخياً مُطولاً تحدث فيه عن أمراء العصور الوسطى مثل روريك نوفغورود، وياروسلاف الحكيم، أيضاً زعيم القوزاق - شعوب نشأت في سهوب أوكرانيا وجنوب روسيا - بوهدان خميلنيتسكي من القرن السابع عشر، وهي شخصيات يستشهد بها كثيراً لدعم الادعاء الروسي بأن بلاده وأوكرانيا أمة واحدة.
وبحسب ما نقلته الصحيفة عن مصادر مطلعة، رفع ترامب، المتفاجئ بما حدث، صوته عدة مرات، وفي لحظة ما هدد بالانسحاب. وفي النهاية، قطع الاجتماع وألغى غداءً كان من المقرر أن تناقش فيه وفود أوسع العلاقات الاقتصادية والتعاون.
وفي حين أشاد الرئيس الأميركي بالقمة واصفاً إياها بأنها "يوم عظيم وناجح في ألاسكا"، مما قاد رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي وقادة أوروبيين إلى التوجه سريعاً إلى البيت الأبيض من أجل ثنيه عن التخلي عن أوكرانيا، أثبتت القمة أنها نقطة تحول من نوع مختلف تمثل في انحدار في علاقة ترامب وبوتين، وهو ما تسبب في تحول الولايات المتحدة لصالح أوكرانيا.
ويعقد الرئيس الأوكراني لقاءً مع نظيره الأميركي يوم الجمعة، وهو في حالة تفاؤل بعقد صفقات اقتصادية والحصول على دعم إضافي من رئيس سبق أن وجه سهام انتقاداته له بسبب "مقامرته بالحرب العالمية الثالثة".
ومع تزايد استياء ترامب من بوتين، أتاحت الإدارة الأميركية للحلفاء الأوروبيين شراء أسلحة من المخزونات الأميركية لصالح أوكرانيا، وساعدت في توجيه ضربات إلى البنية التحتية للطاقة في روسيا، وهددت بوتين ببيع صواريخ بعيدة المدى لكييف قادرة على ضرب موسكو.
كما طبقت واشنطن الرسوم الجمركية الإضافية بنسبة 25% على الواردات من الهند، والتي كانت قد قررتها قبل قمة ألاسكا رداً على استمرار المشتريات الهندية من النفط الروسي، وأيضاً حثت الدول الأوروبية ومجموعة السبع على اتخاذ إجراءات مماثلة.
اقرأ أيضاً: ما الذي طلبه بوتين من ترامب خلال قمة ألاسكا؟
تحول غير مكتمل
ورغم الغضب الأميركي فإن التحول في العلاقات بين ترامب وبوتين لم يحدث بشكل يغلق الباب بشكل كامل بينهما - فواشنطن لم تتخذ بعدُ أي إجراء بشأن تهديداتها بفرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسية - بخلاف الرسوم الهندية، رغم الضغوط التي مارستها مؤخراً على حلفائها للتقدم في هذا الملف - ربما لإفساح المجال لترامب كوسيط سلام محتمل.
ومع ذلك فإن جوهر السياسة الأميركية أصبح في اتجاه واحد فقط، بما يتمثل في إجبار الرئيس الروسي على العودة إلى طاولة المفاوضات من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وقال رئيس الوزراء الأوكراني السابق، أرسيني ياتسينيوك، لصحيفة فاينانشال تايمز: "كان ترامب يُفكّر جدياً في إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام مع بوتين... كان العرض المطروح على بوتين في ألاسكا جيداً للغاية. لكن بوتين بالغ في تجاوزه".
أيضاً هناك بعض العلامات على الرئيس الروسي قد يكون مُدركاً أن قمة ألاسكا كان من الممكن أن تسير بشكل أفضل. وعند سؤاله في وقت سابق من هذا الشهر عما إذا كان قد شرح تاريخ أوكرانيا لترامب، قال بوتين: "الأمر ليس مُضحكاً".
وأضاف بوتين: "لقد تحدثتُ مع محاوِريَّ الأميركيين الآخرين حول ذلك، ولن أخفي الأمر: تحدثنا فعلاً عن خيارات مختلفة للتسوية، بصراحة ووضوح. لا أعرف ما الذي سينتج عن ذلك، لكننا مستعدون لمواصلة هذا النقاش".
وصف مسؤول في البيت الأبيض القمة بأنها "مثمرة" ونفى فكرة أنها سارت بشكل سيء. وأضاف المسؤول للصحيفة البريطانية أن الإدارة الأميركية تعتبر أي فرصة لفهم الموقف الروسي بشكل أفضل "مفيدة".
اقرأ أيضاً: 🔴 قمة آلاسكا.. "نتائج مثمرة" دون كشف التفاصيل وترامب وبوتين يؤكدان على عقد اجتماع آخر قريباً
الجهود الأميركية تعود إلى الربيع
تعثرت جهود الرئيس الأميركي للتوصل إلى اتفاق في الربيع، عندما قال مسؤولون روس كبار إن الرئيس الروسي غير مهتم بمناقشة خطة سلام وضعتها الولايات المتحدة بمشاركة أوكرانية وأوروبية. وأُلغي اجتماع آخر كان مقرراً في شهر مايو/ أيار.
ولكن في أوائل أغسطس/ آب، سافر المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف إلى موسكو في محاولة لإحياء محادثات السلام. وبعد أن أمضى ويتكوف ثلاث ساعات في الكرملين مع بوتين، في اجتماعهما الخامس هذا العام، أخبر مسؤولون أميركيون الحلفاء أن التوصل إلى اتفاق أصبح ممكناً فجأة.
وقال المسؤولون الأميركيون إن الرئيس الروسي ظهر أكثر مرونةً في القضايا الإقليمية في اجتماع أغسطس، مقارنةً باجتماعاته السابقة مع المبعوث الأميركي. كما ظنوا أن بوتين قلق بشأن العقوبات الأميركية على واردات الهند من النفط الروسي. وبناءً على ذلك تم اتخاذ قرار بعقد القمة بين بوتين وترامب.
وفي ألاسكا، أعرب الرئيس الأميركي عن استعداد بلاده للاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، ودفع أوكرانيا للانسحاب من بعض مواقعها الأمامية في منطقة دونباس شرقي البلاد، إذا أوقفت روسيا القتال، بحسب ما قاله شخصان مطلعان على الأمر للصحيفة البريطانية.
لكن الصفقة المزعومة بُنيت على مفاهيم خاطئة. فـ"تنازلات" روسيا الإقليمية، كما قدّمها ويتكوف، لم تكن سوى قبول بتجميد خط المواجهة في بعض المناطق التي فشلت موسكو في السيطرة عليها بالقوة - مع استمرار مطالبتها لأوكرانيا بالتنازل عن كامل إقليم دونباس.
وقال شخص مُطّلع على المحادثات: "لقد أساء (ويتكوف) فهم كل ما قاله بوتين حول موضوع القمة". بينما نفى مسؤول البيت الأبيض التلميح إلى أن ويتكوف أساء فهم الموقف الروسي.
وأصرّ الرئيس الروسي على أنه لن يكون هناك اتفاق ممكن ما لم يُعالج ما أسماه "الأسباب الجذرية" للصراع، وهو ما يُشير إليه باختصار بتغيير النظام في كييف، ووضع حد لتوسع الناتو، وإمدادات الأسلحة الغربية لأوكرانيا. بالنسبة لبوتين، كان عرض ترامب مُحبطاً، فالرئيس الروسي أراد استسلام أوكرانيا.
اقرأ أيضاً: قمة ألاسكا.. ماهي الخلاصات من لقاء ترامب وبوتين في السياسة والاقتصاد؟
قلق الأوروبيين
نظراً لقلق الحلفاء الأوروبيين من الحديث عن صفقة تتجاوز الرئيس الأوكراني، وعدم إدراكهم لتعنت بوتين في ألاسكا، خشي هؤلاء الحلفاء أن يكون ترامب انحاز بشكل حاسم إلى الصف الروسي.
وتراجع ترامب عن تهديداته بفرض عقوبات جديدة صارمة على موسكو، وبدا أنه يؤيد مطالب بوتين بتسوية دائمة، بدلاً من وقف إطلاق النار الفوري الذي وعد به، وهو ما دفع زيلينسكي وعدد من القادة الأوروبيين للمسارعة إلى البيت الأبيض من أجل استعادة دعم الرئيس الأميركي.
لكن مما أراح هؤلاء الحلفاء، إعلان ترامب موافقته على دعم ضمانات أمنية واسعة النطاق لأوكرانيا في حالة انتهاء الحرب، وإشارته إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تدعم الجهود الأوروبية لتعزيز دفاعات كييف، إلى جانب عرضه التوسط لعقد اجتماع بين بوتين وزيلينسكي.
وساهم اجتماع القادة الأوروبيين مع ترامب بشكل كبير في تهدئة المخاوف في أوروبا من أن ترامب قد وافق على ترك أوكرانيا تحت رحمة بوتين، لكن الاجتماع أعطى روسيا سبباً لإلقاء اللوم على أوكرانيا وأوروبا لعدم إحراز تقدم في ألاسكا.
وذكر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن بوتين أبلغ ترامب خلال القمة بأنه "مستعد للموافقة" على اتفاق في ألاسكا، لكن الرئيس الأميركي سعى للحصول على بعض الوقت "لطلب المشورة" من حلفاء واشنطن، وترك روسيا في مأزق.
وقال الوزير الروسي، في مقابلة مع صحيفة كوميرسانت الروسية، نُشرت يوم الأربعاء: "إنهم يضغطون عليه (ترامب). يحاولون إقناعه بأن زيلينسكي وأوروبا ليسا من يمزحان، بل الرئيس بوتين هو من لا يريد السلام".
ووصل زيلينسكي إلى البيت الأبيض يوم الجمعة، وهو أكثر تفاؤلاً من أي وقت مضى منذ عودة ترامب إلى السلطة في يناير/ كانون الثاني بأن الولايات المتحدة تقف إلى جانبه الآن.
وتُعدّ المساعدات الاستخباراتية الأميركية والمباحثات حول تسليح أوكرانيا بصواريخ توماهوك كروز بعيدة المدى مؤشرات مشجعة لكييف وحلفائها الأوروبيين على أن ترامب مستعد أخيراً للضغط على روسيا، سواء بشكل مباشر أو من خلالهم.
وضغطت الولايات المتحدة على العواصم الأوروبية لـ"مصادرة أو استخدام" الأصول السيادية الروسية المجمدة لتسليح أوكرانيا، وهو ما يقترحه الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي. كما طالبت أميركا الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية عقابية على الصين بسبب وارداتها من النفط الروسي.
اقرأ أيضاً: ترامب يؤكد لزيلينسكي: بوتين يريد إنهاء الحرب في أوكرانيا
الباب المفتوح في العلاقة
أحد الضغوط التي لم يطبقها البيت الأبيض فعلياً يتمثل في تهديدات ترامب المتكررة بزيادة العقوبات الأميركية على روسيا. ويعتقد الرئيس الأميركي أن القيام بذلك سيُقوّض أي دور وساطة له مع بوتين، بحسب ما قاله مسؤولون أميركيون وأوروبيين لفايننشال تايمز.
وفي غضون ذلك، زاد الرئيس الروسي من ثنائه على ترامب عدة مرات في ظهوراته العلنية بين قمة ألاسكا ومكالمة يوم الخميس التي جمعت بينهما. حتى أنه قال خلال الأسبوع الماضي إنه كان ينبغي أن يفوز الرئيس الأميركي بجائزة نوبل للسلام لهذا العام - مما أكسبه شكراً علنياً من الرئيس الأميركي.
وأيضاً استمر الإطراء خلال المكالمة يوم الخميس. قال ترامب إن بوتين هنأه على "الإنجاز العظيم المتمثل في السلام في الشرق الأوسط".
وعندما يلتقي الرئيسان في القمة المرتقبة بمدينة بودابست، لا يوجد ما يضمن عدم تأثر ترامب. وقال مسؤول أوروبي كبير مُشارك في المحادثات مع البيت الأبيض بشأن أوكرانيا للصحيفة البريطانية: "مع ترامب، الأمر أشبه بلعبة شد وجذب مستمرة. تتحدث إليه، وتساعده على الوصول إلى نقطة يرى فيها أن بوتين يُمثل مشكلة، وبمجرد أن تظن أنه اقتنع، يعود مرة أخرى إلى موقف أقرب لبوتين. لذلك عليك أن تبدأ الحديث من جديد، وهكذا عدة مرات".
لكن يبدو أن الرئيس الروسي قد حسب أنه طالما أن له اليد العليا في ساحة المعركة، فلا داعٍ لتقديم أي تنازلات - حتى مع تعثر اقتصاده الحربي.
وقال مسؤول أوروبي كبير آخر: "الأمر لا يتعلق بالمال بالنسبة لبوتين. إنه إرثه - إنه يريد أن يُخلّد كأفضل حاكم روسي منذ بطرس الأكبر". "لقد اعتقد أنه قادر على منح ترامب انتصاراً، لكنه قرر عدم القيام بذلك".
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي